صنع سياسات الطاقة المبنية على الأدلة – تجربة المملكة المتحدة

بقلم د. أحمد كَيـــــــــلاني، باحث في مركز أبحاث الطاقة في المملكة المتحدة

الهدف من صنع السياسات المبنية على الأدلة (Evidence-based policy making) في ظاهره يبدو بسيط، وهو ان تحاول الوزارة او الحكومة تصميم سياسات آنية او مستقبلية لحل مشاكل قطاع الطاقة بناءاً على الأدلة العلمية والواقعية.
فمثلاً لو ان الطلب على الطاقة يزداد، والدليل العلمي يقول يجب منح قروض بدون فوائد للمواطنين لشراء منظومات طاقة شمسية بدءا من بغداد لتقليل الاستهلاك، اذن يجب ان تصمم الدولة سياسة في هذا الجانب تعالج المشكلة.
لكن في الواقع هذا المبدأ يبدو أكثر تعقيداً من ان يُطبق في العراق وحتى في بعض الدول المتقدمة نظراً لأن الدليل العلمي غالباً لا يمكن ان يطغى على السياسة.

التحدي الذي يواجه اي حكومة عندما تريد انشاء سياسات الطاقة هو ضمان توفر أدلة علمية عالية الجودة وذات صلة بالمشكلة المراد حلها شرط ان يستخدمها صانعوا القرار لاحقا لتوجيه قراراتهم. لكن حتى وان توفرت تلك الأدلة فهي قد تكون ادلة مجزأة (fragmented) ومتضاربة. فضلاً على ان الخبراء احيانا يختلفون حول أي دليل يكون له وزن أثقل ويجب ان يؤخذ بعين الاعتبار أكثر من غيره في تصميم السياسات. فمثلا هناك بعض الخبراء يقولون ان الطلب على النفط العراقي سيزداد مستقبلاً وبالتالي يجب تصميم سياسات تشجع على الاستثمار في قطاع النفط والبعض الاخر يرى ان الطلب على النفط العراقي سيقل وانه يجب تصميم سياسات تدعو للاستثمار في الطاقة النظيفة.

الحقيقة ان تصميم سياسة الطاقة هي معضلة كبيرة تنطوي على مقايضات (trade-offs) بين ثلاثة اشياء: ضمان الحكومة تنفيذ السياسة بأقل سعر للدولة، ضمان توفر المنتج بهذا السعر على المدى البعيد، والاهم ضمان وجود مؤسسات ذات مصداقية ومستقلة تقدم المشورة العلمية للحكومة حول الأدلة الموجودة وفعالية السياسة.

لنرى الان كيف يتم تصميم سياسة الطاقة لبعض الدول؟
المملكة المتحدة: قرار سياسة الطاقة فيها شبه مركزي اذا تنظم الحكومة اغلب سياسات الطاقة بالاستعانة بالناصح الرسمي للبرلمان والحكومة وهي (هيئة تغير المناخ (Climate Change Committee . تستند الهيئة الى اخر الأبحاث المنشورة من مراكز بحثية متخصصة كمركز ابحاث الطاقة في المملكة المتحدة (UKERC) المكون من اكاديميين وباحثين لإبداء المشورة وكذلك الأدلة العلمية المتوفرة في الأبحاث العالمية.
ويتم عمل الدراسات والنمذجة على مستوى البلد باستخدام نماذج الطاقة (Energy Models) وتُقدم الى صانعي القرار. يتخذ صانعوا القرار (بناءا على قناعتهم وتوجهاتهم السياسية) سياسة الطاقة المناسبة.

فرنسا: القرار ايضا مركزي اذ تتخذ الوزارة قراراتها مركزيا بالتعاون مع وكالة التغيرات البيئية (Agence de la transition écologique) وكذلك لجنة تغير المناخ The Haut Conseil pour le Climat (HCC)

المانيا: قرارات سياسة الطاقة فيها أقل مركزية من بريطانيا وفرنسا وتُتخذ بالتعاون مع مؤسسات خارجية كثيرة ونادرا ما تشترك الوزارات بصنع الدراسات المطلوبة لتحديد السياسات. اذ تُشرك المانيا مؤسسات عديدة في صنع القرار اللامركزي مثل Agora Energiewende, Fraunhofer ISI, the Postdam Institute ولكن للأحزاب الرئيسية الالمانية ادوار في تحديد الأدلة اللازمة للسياسات.

اذن نستنتج ان صنع السياسات المبنية على الأدلة هي عملية معقدة ويشترك فيها أكثر من جهة مع ضرورة وجود فريق نمذجة (Modelling) مركزي يشترك في عملية صنع القرار. وتُقدم الأدلة بعدها لصانعي القرار لغرض اتخاذ القرار المناسب.

الان بحكم اختصاص صاحب المقال، سنتطرق بالتحديد على مساهمات مركز أبحاث الطاقة في المملكة المتحدة بخصوص اظهار الأدلة العلمية وسياسات الحكومة البريطانية بخصوص المناخ والطاقة منذ أن تأسس المركز في سنة ٢٠٠٤.
كما مبين في الصورة أدناه بدأ المركز أولى نشاطاته البحثية من ٢٠٠٤ الى ٢٠٠٩ لمحاولة الاجابة على سؤال كيف نستطيع تقليل او إزالة الانبعاثات الكربونية من نظام الطاقة بأكمله؟ اذ تمكن الباحثون في المركز من نشر أوراق مهمة جدا استندت اليها الحكومة البريطانية او لجنة تغير المناخ لاحقا في تحديد سياساتها مثل (تكاليف واثار مشكلة انقطاع الطاقة في مصادر الطاقة المتجددة وكذلك طاقات ٢٠٥٠) اذ درس الباحثون منذ ٢٠٠٤ كيف سيكون نظام الطاقة بحلول ٢٠٥٠ باستخدام النماذج العلمية. ونرى من خلال طرح التساؤل آنذاك ان هناك عدم يقين كبير فيما إذا كان تحول نظام الطاقة الى المستدام النظيف ممكناً!

 

 

خلال المرحلة الثانية من التمويل للمركز، تيقن الباحثون وصناع القرار أكثر انه يجب التحرك لضمان اقتصاد ونظام طاقة أكثر استدامة وخصوصا في ظل تزايد الأدلة بخصوص اثار واضرار التغير المناخي على العالم وظاهر الاحتباس الحراري وكان الشغل الشاغل للباحثين في المركز هو (افعل ذلك: كيفية تحقيق تقدم كبير في إزالة الكربون بحلول ٢٠٥٠). تمكن الباحثون في المركز من نشر أوراق مهمة مثل كيفية تحول نظام المواصلات الى نظام مستدام وسيناريوهات تقليل الكربون بحلول ٢٠٥٠ في المملكة المتحدة. قد يتبادر الى الذهن كيف يمكن لنا انشاء سيناريوهات لسياسات تحدث في المستقبل؟ الجواب باستخدام نماذج علمية (غالبا ما تكون خاطئة نسبيا) تعطيك أجوبة لأسئلة محيرة وتقدير الكلف والفوائد لتلك السيناريوهات.

خلال المرحلة الثالثة من التمويل بين ٢٠١٤ – ٢٠١٩ كما ادناه أيقن الباحثون في مركز أبحاث الطاقة ان تحول الطاقة بالاعتماد على مصادر نظيفة أكثر حاصل لا محالة ولذلك كان العنوان البحثي خلال هذه الخمس سنوات (تحول الطاقة في المملكة المتحدة في ضل عالم متردد: التحديات والمقايضات). نشر الباحثون في هذه الفترة أكثر من مائة بحث في مجلات عالمية رصينة مثل Nature عن تقليل الانبعاثات في المنازل وكذلك بحث سبل المشاركة المحلية في تحول نظام الطاقة.
خلال المرحلة الرابعة بين ٢٠١٩ و ٢٠٢٤، اصبح المركز يستكشف التحديات الجديدة والفرص من تحقيق تحول الطاقة ولذلك نشر المركز أوراقا مهمة عن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي وكيف سيؤثر ذلك على انتقال الطاقة وكذلك البحث عميقا عن دور الطاقة النظيفة مثل الرياح والنووية في تقليل أسعار الطاقة التي زادت كثيرا بسبب الازمات العالمية.

 

 

نشر المركز من ٢٠٠٤ الى ٢٠٢٤ خلال عشرين سنة أكثر من ١٥٠ بحثا اصيلا من ٥٠ باحثا وبالتعاون مع أكثر من ٢٠ مؤسسة أخرى فضلا عن نشر كم هائل من المخرجات الأخرى مثل النقاشات العلمية وعمل المؤتمرات الدورية. في الصورة ادناه حوالي ٢٠ بحثا او أكثر أُشير لها الحكومة البريطانية ولجنة تغير المناخ في صنع السياسات الخاصة بالطاقة والتحول الاقتصادي المستدام.

 

 

نستنتج من تجربة مركز أبحاث الطاقة في المملكة المتحدة في انتاج أبحاث تساعد الحكومة البريطانية ولجنة تغير المناخ ان عملية انتاج الأبحاث المناسبة على مستوى البلد هي عملية معقدة وطويلة يجب ان تكون مستمرة من جيل الى اخر لتقليل “عدم اليقين” كما يجب ان تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة داخل وخارج البلد لمعرفة كيفية استغلال الفرص بأفضل طريقة وتقليل المخاطر. وغالبا يتم الاعتماد على نماذج علمية تُصمم للإجابة على أسئلة محيرة تعطي أفكارا عن الفوائد والاضرار للسياسات.

أخيرا وليس اخراً، وحيث أهل مكة أدرى بشعابها، قدت بنفسي نمذجة القطاع الصناعي في المملكة المتحدة لتحديد سياسات الحكومة والبرلمان في هذا المجال بحلول سنة ٢٠٤٢ وذلك من خلال حصولي على تمويل كامل للانضمام الى لجنة تغير المناخ، وقد تعلمت كثيرا من ذلك وقد اعطتني حقي لجنة تغير المناخ من خلال الخطاب ادناه من المدير التنفيذي للهيئة السيد كريس ستارك.

وبذلك أقول، يحتاج العراق الى إنشاء “نموذج – Model ” مبني على اسس علمية، هندسية، واقتصادية، يمثل كل قطاع الطاقة في العراق بدءاً من الموارد الأولية والواردات مروراً بسلسلة عمليات تحويل الطاقة في كل منطقة والى قطاعات الاستهلاك مثل القطاع المنزلي والصناعي والنقل. يُستخدم هذا الموديل في المساعدة في رسم السياسة المستقبلية لحكومة العراق على المدى المتوسط والبعيد في قطاع الطاقة ودراسة السيناريوهات المحتملة لقطاع الطاقة مع الاخذ بالاعتبار مدخلات اقتصادية عديدة وقيود مختلفة مثل عدد السكان، الناتج المحلي الاجمالي، كمية الانبعاثات الكربونية، اسعار الوقود، معدل الفائدة، وغيرها. جدير بالذكر ان هناك دول عديدة تستخدم كثير من النماذج لرسم سياساتها، فمثلا يمتلك كل من تركيا واغلب دول الاتحاد الاوربي وبريطانيا وامريكا نماذج تمثل كل قطاع الطاقة في تلك البلدان.