يتم تداول مصطلح “الاستدامة” منذ بضعة عقود الآن، ولكن بعد كل هذا الوقت لا يبدو أن هناك فهماً عميقاً له. لقد أصبح من الضروري على الجميع تكوين فهم اعمق حول هذا المفهوم لان مستقبل العالم بات يعتمد على كيفية فهمنا وتطبيقنا لأبعاده المختلفة على المستوى الشخصي والمجتمعي. في العراق، لا تحظى قضية الاستدامة بأولوية خاصة، حيث يمكن وصف العقلية العامة والعديد من الممارسات بأنها بعيدة كل المبعد عن مفهوم الاستدامة، مما يعرض مستقبل البلاد لخطر كبير. إذن، كيف يمكن فهم الاستدامة بصورة افضل؟
أي شخص يحاول تثقيف نفسه حول هذا المفهوم سوف يدرك أنه مفهوم مثير للجدل إلى حد كبير. إن المشكلة التي جعلت مفهوم الاستدامة ضروريًا هي حقيقة التالية وهي اننا كبشر نستهلك موارد الكوكب المحدودة بمعدل متزايد، مما يؤدي إلى استنزاف العديد من كنوزه والتسبب في أضرار له لا يمكن تداركها. كانت دونيلا ميدوز واحدة من أوائل العلماء والكتاب الذين دقوا ناقوس الخطر بشأن هذا الواقع. ففي تقريرها الشهير الموسوم ”حدود النمو“ الصادر عن نادي روما في عام ١٩٧٢، أظهرت من خلال المحاكاة الحاسوبية أن اتجاهات الاستهلاك الحالية للموارد الطبيعية والنمو السكاني في الأرض في حالة تزايد غير متوازن. منذ ذلك الحين، استمر هذا التقرير وكتاباتها اللاحقة في إثارة النقاش حول قضية الاستدامة. بعد ذلك، عرف تقرير لجنة برونتلاند التابعة للأمم المتحدة في عام ١٩٨٧ المفهوم لأول مرة بأنه “تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة”.
ومنذ جرس الانذار الاول الذي أطلقته ميدوز وأول تصور لبروندلاند حول الاستدامة، كان العلماء المعنيون منشغلين باستكشاف المشكلة والتهديد الذي تشكله على الحياة في الأرض كما نعرفها. واصلت ميدوز أبحاثها وكتاباتها في هذا المجال، وفي كتابها “المواطن العالمي” الصادر عام ١٩٩١، كانت رسالتها الأساسية للعالم في أنه إذا أردنا حماية الكوكب من الاضمحلال، فمن الضروري أن ننظر إلى العالم باعتباره نظامًا مترابطًا يتحمل كل شخص يعيش فيه مسؤولية الحفاظ عليه.
ولكن هذه الرسالة واجهت مقاومة شديدة من جهات قد تتعرض مصالحها للتهديد بسبب تداعياتها. على سبيل المثال، تشير الأدلة المتزايدة إلى أن الاحتباس الحراري الناجم عن الاستخدام المفرط للوقود الاحفوري أدى إلى عواقب لا رجعة فيها، مثل ذوبان الجليد في القطب الشمالي، والذي بدوره من شأنه أن يعرض العديد من المدن الساحلية في جميع أنحاء العالم لخطر الفيضان . بالإضافة إلى ذلك، فهو السبب الرئيسي لتلوث الهواء في جميع أنحاء العالم، والذي يسبب مشاكل مثل سرطان الرئة وأمراض أخرى، مما يؤدي إلى مقتل الملايين كل عام . وبدلاً من تغيير ممارساتها، قامت شركات النفط ذات المصالح الخاصة في النمو المستمر لصناعات الوقود الاحفوري بتوظيف نفس جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة التي شككت في التأثير السلبي للتدخين على الصحة لعقود من الزمن من اجل اثارة شكوك مماثلة حول خطورة التغير المناخي. فد اثاروا الشكوك في علم تغير المناخ على الرغم من تنامي رصانته، من أجل تأخير الانتقال من الوقود الاحفوري إلى بدائل أكثر نظافة. ونتيجة لذلك، تحولت قضية تغير المناخ إلى قضية سياسية شديدة الخلاف وموضوع جدلي في الرأي العام ، بدلاً من مناقشته على أساس الأدلة العلمية المتوفرة. ولكن علي الرغم من ذلك، نجحت حكومات العالم في اعتماد أهداف التنمية المستدامة في قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في سبتمبر/أيلول ٢٠١٥، والتي قدمت للعالم أجندة تتألف من ١٧ هدفاً واسع النطاق في مجال التنمية المستدامة يجب السعي إلى تحقيقها في جميع أنحاء العالم بحلول عام ٢٠٣٠.
ومع ذلك، ظلت فكرة الاستدامة مفهومًا بعيد المنال بالنسبة للكثيرين، وخاصة بالنسبة لصناع القرار، مما يزيد من تعقيد تحدي تبني أهداف التنمية المستدامة في سياسات وطنية ودولية متينة. في محاولة لجعل مفهوم الاستدامة أكثر سهولة، طورت الباحثة كيت راورث من جامعة أكسفورد استعارة “اقتصاد الدونات” . حيث سلطت الضوء في نموذجها على أهمية استدامة نظام دعم الحياة على الأرض من خلال التأكد من عدم تجاوز الأسقف البيئية، وفي الوقت نفسه عدم التقصير في تلبية أساسيات الحياة.
وقد اختارت راورث تسعة سقوف بيئية بناءً على ابحاث روكستورم وباحثين آخرين، والتي تشمل من بين أمور أخرى مستويات تلوث الهواء، وحدود اتسهلاك المياه العذبة، ومنع المزيد من فقدان التنوع البيولوجي. أما بالنسبة للمعايير الاجتماعية الدنيا، فقد حددت راورث ١٢ بُعدًا مستمداً من أهداف التنمية المستدامة المتفق عليها في عام ٢٠١٥ من قبل حكومات العالم في إطار الأمم المتحدة. في نموذج راورث هناك منطقة بين الحدود البيئية والاجتماعية على شكل كعكة الدونات. إذا تمكنت البشرية من البقاء داخل هذه المنطقة بحسب راورث، فستكون قادرة على الازدهار داخل منطقة آمنة اجتماعيًا وبيئيًا واقتصاديًا.
المصدر: kateraworth.com
لكن الواقع الحالي يظهر أن العالم قد تجاوز العديد من الأسقف في حين لم يستوف العديد من المعايير الدنيا مجتمعاً، وقد أدى هذا إلى المزيد من عدم المساواة الاقتصادية والبيئية والمجتمعية. وعلى هذا النحو، من المهم جدًا أن تعمل الحكومات والشركات والجمعيات المحلية والعالمية معًا من أجل تحقيق أكبر عدد ممكن من أهداف التنمية المستدامة قبل عام ٢٠٣٠، وهو الموعد النهائي لأجندة التنمية المستدامة. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على العراق، الذي غالبًا ما يوصف بأنه أحد أكثر البلدان عرضة لتغير المناخ ، والذي قد يؤدي فشله في العمل على أهداف التنمية المستدامة إلى كوارث اقتصادية وبيئية واجتماعية محلية ذات تداعيات عالمية.
ومن الضروري أكثر من أي وقت مضى أن يتعاون العراق مع الأطراف المحلية والدولية لحماية نفسه من آثار التهديدات العالمية مثل تغير المناخ وتنفيذ سياسات اجتماعية واقتصادية وبيئية مستدامة من أجل دعم عملية تنمية أكثر شمولاً وتوازناً. سيتم تناول بعض مظاهر عدم الاستدامة في العراق في مقالات لاحقة.